الشيخ أحمد علي عجلاوي
حياته.. رحلاته العلمية .. مُقامه بقوزبرة (5 ــــ 23)
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
======
رحم الله الشيخ أحمد علي عجلاوي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, حيث قدَّم لقرانا الوادعة خدمة جليلة تمثلت في تعليم الناشئة اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم في وقت قلَّ فيه المُعلِّمون وصعبت طرق العلم وضاقت سُبُلُهُ ووسائله, كما انشغل الناس عن العلم بهموم الحياة من زراعة ورعي. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يُثيبه بكل حرف علّمه لحيرانه وحفَّظه, وأن يضع ذلك العمل الطيب في ميزان حسناته, وأن يجعل القرآن أنيسه في قبره وشفيعه.
ينحدر الشيخ أحمد علي عجلاوي كما تزعم أسرته من شمال السودان من منطقة الحَماداب بأراضي قبيلة الشايقية. ولكن الكثير من حيرانه ينفي ذلك الزعم ويردُّه في أصوله الأولى إلى أسرة مصرية دخلت السودان منذ فترة طويلة, واستقرت في شمال السودان في منطقة الحَماداب بأراضي قبيلة الشايقية, وذلك بناءً على أن لهجته العامية لا تحمل أية سمة من سمات اللهجة الشايقية, بل هي أقرب إلى اللهجة المصرية في لكنتها منها إلى اللهجات السودانية المحلية.
وُلِد الشيخ أحمد علي عجلاوي بحِلَّة ود جاد الله غرب مدينة بربر سنة 1917م وترعرع بها, درس المرحلة الابتدائية ببربر, وكان يتردد كثيراً على خلاوي الغبش الشهيرة بنيران القرآن وهي الخلاوي التي حفظ بها الإمام محمد أحمد المهدي القرآن الكريم, كما كان يزور كدباس ومشايخها الشيخ الجعلي, والشيخ حاج حمد, والشيخ محمد ود حاج حمد, ثم الشيخ أحمد الجعلى المثنى. حفظ القرآن منذ وقت مبكر, كان واسع الإطلاع والثقافة في كل ضروب المعرفة. عمل في فترة شبابه موظفاً بالسكة الحديد بمدينة عطبرة, وتنقل أثناء عمله بالسكة الحديد في معظم مدن السودان.
ارتبطت حياته كثيراً بمصر إذ درس فيها إحدى مراحله التعليمية, ثم أخذ يتردد على العلماء عامة وعلماء الأزهر خاصة. تزوج الشيخ عجلاوي ابنة عمه وأنجب منها بنين وبنات, ترقَّي في وظيفته حتى بلغ وظيفة وكيل ناظر محطة, ثم استقال من عمله ليتفرغ لخدمة القرآن الكريم.
هاجر في سبيل الله مدرساً للقرآن الكريم ومحفظاً, بدأ تحفيظ القرآن بمنطقة القضارف وكسلا, ثم انتقل إلى خلوة قرية قباتي بالقرب من العالياب, ثم تحول إلى خلوة العالياب. كان يتردد كثيرا على كسلا لزيارة أهله وأرحامه هناك, انتقل إلى كبوشية, حيث التقى فيها بأحد أعيان قرية قوزبرة وهو الطيب ود حرحوف, وذلك في أوائل الخمسينيات بعد وفاة الشيخ: محمد شيخ الحيران. وبعد مداولات بينهما قَبِلَ الشيخ عجلاوي أن يُكمل مسيرة الشيخ: محمد شيخ الحيران في تحفيظ القرآن بقرية قوزبرة, فشرع في عمله الطيب المبارك منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
استقر الشيخ أحمد عجلاوي بقوزبرة مع أسرته الأولى, وبدأ في تحفيظ القرآن الكريم للناس عامة, واتخذ من خلوة آل حرحوف مقراً له. تقع خلوة الشيخ عجلاوي وسط قرية قوزبرة, جنوب دكان السماني ود مصطفى, ملتصقة ببيت عبد القادر محمد أبو شراء من جهة الغرب, وبيت بشير دفع الله من جهة الجنوب, وبجوار منزل شيخ الحيران, ولا تبعد كثيراً عن مسجد قوزبرة القديم. تزوج الشيخ عجلاوي من قرية قوزبرة, ثم تزوج من قرية الغبش, كما تزوج من مدينة شندي وأقامتْ زوجاته معه بقرية قوزبرة.
كان الشيخ عجلاوي حسن السَّمْت, أبيض اللون, قصير القامة, دقيق العينين لهما بريق ولمعان, حاد الأنف, يزدان وجهه الصبوح بلحية بيضاء, شديد بياض الثياب, يلبس في الخلوة عراقي ساكوبيس وسروال طويل وعمامة ويلتف بثوب أبيض واسع كعادة المشايخ في السودان, ويحتذي مركوباً "قطع جنينة" أحمر اللون. كما كان يرتدي جلابية للمناسبات العامة وصلاة الجمعة ومناسبات الأعياد. كان نحيفاً في جسده, ومربوعاً في قامته بين الطويل والقصير, إذا مشي أسرع في مشيته, تراه كأنه ينكب للأمام في مشيته. يلبس في إصبعه البنصر من يده اليمنى خاتماً من فضة, يلوح بياضه عندما ينادي أحد الحيران بيده.
يتحدث الشيخ أحمد عجلاوي في سكينة وهدوء ولكن سرعان ما تعلو نبرة صوته في قوة وحدة. يعيش في عزلة عن الناس وفي خلوة مع القرآن الكريم, يتلو القرآن من مصحف خاص به مكتوب بخط اليد, رسمه كبير وواضح وجميل, يتألف من أوراق منفصلة عن بعضها ليست مثبتة مع بعضها, يجمعها بخيط يلفه حول المصحف عند انتهائه من التلاوة. يجلس على عنقريب هبابي قصير, مفروش بسجادة الصلاة المصنوعة من السعف, وفي طرفه مخدة يرقد عليها حيناً ويتكئ عليها كثيراً. يتلو القرآن الكريم بصوت جميل, تسمع له أزيزاً يتردد في صدره وحنجرته, لا تبينُ مخارجُه, يعلو صوته تارة وينخفض تارة أخرى لكنه لا ينقطع أبداً. يلبس نظارة في بعض الأحيان لكنه كثيرا ما يضعها بجانبه. يخرج من خلوته مع القرآن وتلاوته بزيارات تأتي تباعاً وقت صلاة العصر من الشيخ الطيب ود حرحوف, وكنا نحن الحيران نحب زيارات الطيب ود حرحوف حتى ينشغل عنا الشيخ عجلاوي قليلا بشيء من الأنس.
كان الشيخ عجلاوي فصيحا في لغته, بليغاً في خطابه, فقيها في قضايا العقيدة والشريعة, قوياً في حجته وبرهانه, غضوباً لله سبحانه وتعالى, تقياً نقياً حجَّ لبيت الله الحرام عدة مرات, وكانت حجته الثانية سنة 1968م؛ فكثيرا ما كان يؤم المُصلِّين في صلاة الجمعة بمسجد قوزبرة القديم, بل كان يقدم بعض الدروس في الوعظ والإرشاد عقب صلاة الجمعة عندما يكون إمام صلاة الجمعة الشيخ حاج حمد ود مصطفى, وكان مؤذن المسجد عبد السيد "جبور" والد علي عبد السيد لهم الرحمة والغفران.
ولعل ما زاد الفجوة بين الشيخ أحمد عجلاوي وأهالي المنطقة عامة وقوزبرة خاصة إذ هي مقامه ومستقره, أنه كان مؤيداً وداعماً للحزب الوطني الاتحادي, بينما كان معظم أهالي قوزبرة ينتمون للحزب الاتحادي حزب الختمية. وكان دافعه لتأييد الحزب الوطني الاتحادي البحث عن بدائل سياسية وفكرية تقود البلاد لاستقرار سياسي وعدالة في توزيع الموارد الاقتصادية والمالية, وكذلك الانفلات من ربقة التبعية العمياء. وقد جهر بانتمائه الحزبي بقوة, وذكر في مجلس ضم أعياناً من البلد أنه وطني إتحادي, ويكره الختمية, فتسبب ذلك في انقطاعه عن إمامة صلاة الجمعة.
وكان في قوزبرة في ذلك الوقت أواخر السينيات خلوتان الأولي للشيخ عجلاوي والثانية للشيخ محمد نعيم ود علُّوبة, وكنا نحن طلاب خلوة عجلاوي نفخر على طلاب خلوة محمد نعيم بأن الشيخ محمد نعيم من تلاميذ الشيخ عجلاوي وحفظ القرآن على يديه. وكان الشيخ محمد نعيم - رحمه الله - يُدرِّس القرآن ويحفِّظه في مسجد قوزبرة العتيق جنوب دكان عبد الله شاور, وشرق بيوت آل شايق.
ومما لا أنساه أن معظم أبناء قرية الحميراب وقرية الشارباب كانوا يحفظون القرآن في خلوة الشيخ عجلاوي, بينما معظم أبناء قرية الشبطاب كانوا يحفظون القرآن في خلوة الشيخ محمد نعيم ود علوبة. ولا أدري تفسيرا لذلك غير أن بعضا من أبناء الحميراب في الجيل الذي سبقنا وعاصرناه في الخلوة كانوا يحفظون شطرا كبيرا من القرآن الكريم مثل عمر الإمام أحمد وقيع الله فوجدوا حظوة ومكانة عند الشيخ عجلاوي مما جعلهم رسلاً للخلوة في القرية, وكان الشيخ عجلاوي يلهج كثيرا باسم تلميذه الأستاذ أبو زيد موسى فضل الله ويفخر بأنه أحد حيرانه المتميِّزين.
يسكن الشيخ عجلاوي في أقصى جنوب قوزبرة, إذ يفتح بيته غرباً على شارع السيارات العام. وفي بعض الأحيان كان يرسلنا لبيته لغرض من الأغراض, فكنا نتسابق فرحين من الخلوة متجهين جنوباً بالزقاق الضيق الذي يبدأ ببيت بشير دفع الله على اليمين, وبيت إبراهيم عبد الله سنوسي على اليسار, ونمرُّ ببيت الخضر الطيب حرحوف على اليمين, وبيت منصور حسين سعد على اليسار, ثم نتخطى بيت الكباشي, وبيت أحمد حسيب الله "أحمد بيه" ونغير مسارنا لجهة اليمين فنتجاوز بيت كروال محمد, وبيت محمد ود دفع الله, وبيت عبد الكريم محمد دفع الله, ولا ننسى تلك الساحة الكبيرة التي تقام بها حولية كروال السنوية. ثم نتجاوز بيت محمد عوض الله سنوسي, وبيت النور رحمة الله سنوسي, فنجد أنفسنا بين بيتي عثمان الطيب حرحوف على جهة اليمين, وبيت أحمد محمد خير على جهة اليسار, ونسرع فنتخطى بيت إدريس محمد خير من جهة اليمين, ونقف أمام بيت الشيخ أحمد علي عجلاوي. يتكون بيت الشيخ عجلاوي من غرفتين ومطبخ, تفتح إحدى الغرفتين جهة الشرق, بينما تفتح الغرفة الأخرى والمطبخ جهة الجنوب.
أصيب الشيخ عجلاوي في آخر أيامه بداء اليرقان, ولما اشتد عليه الداء نقل لمستشفى مدينة شندي حيث توفي فيه سنة 1977م ودفن بمقابر مدينة شندي. له الرحمة والمغفرة, ونسال الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويسكنه فسيح جناته.
ولا يفوتني أن أقف قليلاً عند أسرة عجلاوي وأذكر أن محمد علي عجلاوي شقيق الشيخ أحمد علي عجلاوي. من أوائل السودانيين الذين عملوا بالسكة الحديد بمدينة عطبرة, بل هو واحد من السودانيين الذين تسلموا العمل من الإنجليز أيام السَّوْدنة, وترقَّى في عمله حتى بلغ ملاحظ ورشة. له ولدان هما: بكري الذي عمل موظفاً في السكة الحديد, حتى استقال منها, وكان يتردد على الشيخ عجلاوي بقرية قوزبرة, ويقيم الآن بمدينة مدني بمنطقة حنتوب. والدكتور محمد محمد علي عجلاوي الذي تخرج في كلية الطب جامعة عين شمس سنة 1966م, وسافر إلى المملكة العربية السعودية وأسس أول مستشفى للجلدية والتناسلية والعقم سنة 1967م بمنطقة باب شريف. ثم رجع للسودان للاستقرار ولكنه لم يمكث طويلاً, فرجع ثانية للمملكة العربية السعودية سنة 1989 واستقر بها لفترة طويلة حتى عاد للسودان سنة 2009م, واستقر بمدينة مدني واتّخذ عيادته بها, عمل بها لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أشهر, وأصيب بنزيف حاد في المخ, نقل للعلاج إلى القاهرة, حيث توفى هناك مع زوجته المصرية الجنسية وأولاده, عليه من الله شآبيب الرحمة والغفران.
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
قرية الحميراب
حياته.. رحلاته العلمية .. مُقامه بقوزبرة (5 ــــ 23)
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
======
رحم الله الشيخ أحمد علي عجلاوي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, حيث قدَّم لقرانا الوادعة خدمة جليلة تمثلت في تعليم الناشئة اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم في وقت قلَّ فيه المُعلِّمون وصعبت طرق العلم وضاقت سُبُلُهُ ووسائله, كما انشغل الناس عن العلم بهموم الحياة من زراعة ورعي. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يُثيبه بكل حرف علّمه لحيرانه وحفَّظه, وأن يضع ذلك العمل الطيب في ميزان حسناته, وأن يجعل القرآن أنيسه في قبره وشفيعه.
ينحدر الشيخ أحمد علي عجلاوي كما تزعم أسرته من شمال السودان من منطقة الحَماداب بأراضي قبيلة الشايقية. ولكن الكثير من حيرانه ينفي ذلك الزعم ويردُّه في أصوله الأولى إلى أسرة مصرية دخلت السودان منذ فترة طويلة, واستقرت في شمال السودان في منطقة الحَماداب بأراضي قبيلة الشايقية, وذلك بناءً على أن لهجته العامية لا تحمل أية سمة من سمات اللهجة الشايقية, بل هي أقرب إلى اللهجة المصرية في لكنتها منها إلى اللهجات السودانية المحلية.
وُلِد الشيخ أحمد علي عجلاوي بحِلَّة ود جاد الله غرب مدينة بربر سنة 1917م وترعرع بها, درس المرحلة الابتدائية ببربر, وكان يتردد كثيراً على خلاوي الغبش الشهيرة بنيران القرآن وهي الخلاوي التي حفظ بها الإمام محمد أحمد المهدي القرآن الكريم, كما كان يزور كدباس ومشايخها الشيخ الجعلي, والشيخ حاج حمد, والشيخ محمد ود حاج حمد, ثم الشيخ أحمد الجعلى المثنى. حفظ القرآن منذ وقت مبكر, كان واسع الإطلاع والثقافة في كل ضروب المعرفة. عمل في فترة شبابه موظفاً بالسكة الحديد بمدينة عطبرة, وتنقل أثناء عمله بالسكة الحديد في معظم مدن السودان.
ارتبطت حياته كثيراً بمصر إذ درس فيها إحدى مراحله التعليمية, ثم أخذ يتردد على العلماء عامة وعلماء الأزهر خاصة. تزوج الشيخ عجلاوي ابنة عمه وأنجب منها بنين وبنات, ترقَّي في وظيفته حتى بلغ وظيفة وكيل ناظر محطة, ثم استقال من عمله ليتفرغ لخدمة القرآن الكريم.
هاجر في سبيل الله مدرساً للقرآن الكريم ومحفظاً, بدأ تحفيظ القرآن بمنطقة القضارف وكسلا, ثم انتقل إلى خلوة قرية قباتي بالقرب من العالياب, ثم تحول إلى خلوة العالياب. كان يتردد كثيرا على كسلا لزيارة أهله وأرحامه هناك, انتقل إلى كبوشية, حيث التقى فيها بأحد أعيان قرية قوزبرة وهو الطيب ود حرحوف, وذلك في أوائل الخمسينيات بعد وفاة الشيخ: محمد شيخ الحيران. وبعد مداولات بينهما قَبِلَ الشيخ عجلاوي أن يُكمل مسيرة الشيخ: محمد شيخ الحيران في تحفيظ القرآن بقرية قوزبرة, فشرع في عمله الطيب المبارك منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
استقر الشيخ أحمد عجلاوي بقوزبرة مع أسرته الأولى, وبدأ في تحفيظ القرآن الكريم للناس عامة, واتخذ من خلوة آل حرحوف مقراً له. تقع خلوة الشيخ عجلاوي وسط قرية قوزبرة, جنوب دكان السماني ود مصطفى, ملتصقة ببيت عبد القادر محمد أبو شراء من جهة الغرب, وبيت بشير دفع الله من جهة الجنوب, وبجوار منزل شيخ الحيران, ولا تبعد كثيراً عن مسجد قوزبرة القديم. تزوج الشيخ عجلاوي من قرية قوزبرة, ثم تزوج من قرية الغبش, كما تزوج من مدينة شندي وأقامتْ زوجاته معه بقرية قوزبرة.
كان الشيخ عجلاوي حسن السَّمْت, أبيض اللون, قصير القامة, دقيق العينين لهما بريق ولمعان, حاد الأنف, يزدان وجهه الصبوح بلحية بيضاء, شديد بياض الثياب, يلبس في الخلوة عراقي ساكوبيس وسروال طويل وعمامة ويلتف بثوب أبيض واسع كعادة المشايخ في السودان, ويحتذي مركوباً "قطع جنينة" أحمر اللون. كما كان يرتدي جلابية للمناسبات العامة وصلاة الجمعة ومناسبات الأعياد. كان نحيفاً في جسده, ومربوعاً في قامته بين الطويل والقصير, إذا مشي أسرع في مشيته, تراه كأنه ينكب للأمام في مشيته. يلبس في إصبعه البنصر من يده اليمنى خاتماً من فضة, يلوح بياضه عندما ينادي أحد الحيران بيده.
يتحدث الشيخ أحمد عجلاوي في سكينة وهدوء ولكن سرعان ما تعلو نبرة صوته في قوة وحدة. يعيش في عزلة عن الناس وفي خلوة مع القرآن الكريم, يتلو القرآن من مصحف خاص به مكتوب بخط اليد, رسمه كبير وواضح وجميل, يتألف من أوراق منفصلة عن بعضها ليست مثبتة مع بعضها, يجمعها بخيط يلفه حول المصحف عند انتهائه من التلاوة. يجلس على عنقريب هبابي قصير, مفروش بسجادة الصلاة المصنوعة من السعف, وفي طرفه مخدة يرقد عليها حيناً ويتكئ عليها كثيراً. يتلو القرآن الكريم بصوت جميل, تسمع له أزيزاً يتردد في صدره وحنجرته, لا تبينُ مخارجُه, يعلو صوته تارة وينخفض تارة أخرى لكنه لا ينقطع أبداً. يلبس نظارة في بعض الأحيان لكنه كثيرا ما يضعها بجانبه. يخرج من خلوته مع القرآن وتلاوته بزيارات تأتي تباعاً وقت صلاة العصر من الشيخ الطيب ود حرحوف, وكنا نحن الحيران نحب زيارات الطيب ود حرحوف حتى ينشغل عنا الشيخ عجلاوي قليلا بشيء من الأنس.
كان الشيخ عجلاوي فصيحا في لغته, بليغاً في خطابه, فقيها في قضايا العقيدة والشريعة, قوياً في حجته وبرهانه, غضوباً لله سبحانه وتعالى, تقياً نقياً حجَّ لبيت الله الحرام عدة مرات, وكانت حجته الثانية سنة 1968م؛ فكثيرا ما كان يؤم المُصلِّين في صلاة الجمعة بمسجد قوزبرة القديم, بل كان يقدم بعض الدروس في الوعظ والإرشاد عقب صلاة الجمعة عندما يكون إمام صلاة الجمعة الشيخ حاج حمد ود مصطفى, وكان مؤذن المسجد عبد السيد "جبور" والد علي عبد السيد لهم الرحمة والغفران.
ولعل ما زاد الفجوة بين الشيخ أحمد عجلاوي وأهالي المنطقة عامة وقوزبرة خاصة إذ هي مقامه ومستقره, أنه كان مؤيداً وداعماً للحزب الوطني الاتحادي, بينما كان معظم أهالي قوزبرة ينتمون للحزب الاتحادي حزب الختمية. وكان دافعه لتأييد الحزب الوطني الاتحادي البحث عن بدائل سياسية وفكرية تقود البلاد لاستقرار سياسي وعدالة في توزيع الموارد الاقتصادية والمالية, وكذلك الانفلات من ربقة التبعية العمياء. وقد جهر بانتمائه الحزبي بقوة, وذكر في مجلس ضم أعياناً من البلد أنه وطني إتحادي, ويكره الختمية, فتسبب ذلك في انقطاعه عن إمامة صلاة الجمعة.
وكان في قوزبرة في ذلك الوقت أواخر السينيات خلوتان الأولي للشيخ عجلاوي والثانية للشيخ محمد نعيم ود علُّوبة, وكنا نحن طلاب خلوة عجلاوي نفخر على طلاب خلوة محمد نعيم بأن الشيخ محمد نعيم من تلاميذ الشيخ عجلاوي وحفظ القرآن على يديه. وكان الشيخ محمد نعيم - رحمه الله - يُدرِّس القرآن ويحفِّظه في مسجد قوزبرة العتيق جنوب دكان عبد الله شاور, وشرق بيوت آل شايق.
ومما لا أنساه أن معظم أبناء قرية الحميراب وقرية الشارباب كانوا يحفظون القرآن في خلوة الشيخ عجلاوي, بينما معظم أبناء قرية الشبطاب كانوا يحفظون القرآن في خلوة الشيخ محمد نعيم ود علوبة. ولا أدري تفسيرا لذلك غير أن بعضا من أبناء الحميراب في الجيل الذي سبقنا وعاصرناه في الخلوة كانوا يحفظون شطرا كبيرا من القرآن الكريم مثل عمر الإمام أحمد وقيع الله فوجدوا حظوة ومكانة عند الشيخ عجلاوي مما جعلهم رسلاً للخلوة في القرية, وكان الشيخ عجلاوي يلهج كثيرا باسم تلميذه الأستاذ أبو زيد موسى فضل الله ويفخر بأنه أحد حيرانه المتميِّزين.
يسكن الشيخ عجلاوي في أقصى جنوب قوزبرة, إذ يفتح بيته غرباً على شارع السيارات العام. وفي بعض الأحيان كان يرسلنا لبيته لغرض من الأغراض, فكنا نتسابق فرحين من الخلوة متجهين جنوباً بالزقاق الضيق الذي يبدأ ببيت بشير دفع الله على اليمين, وبيت إبراهيم عبد الله سنوسي على اليسار, ونمرُّ ببيت الخضر الطيب حرحوف على اليمين, وبيت منصور حسين سعد على اليسار, ثم نتخطى بيت الكباشي, وبيت أحمد حسيب الله "أحمد بيه" ونغير مسارنا لجهة اليمين فنتجاوز بيت كروال محمد, وبيت محمد ود دفع الله, وبيت عبد الكريم محمد دفع الله, ولا ننسى تلك الساحة الكبيرة التي تقام بها حولية كروال السنوية. ثم نتجاوز بيت محمد عوض الله سنوسي, وبيت النور رحمة الله سنوسي, فنجد أنفسنا بين بيتي عثمان الطيب حرحوف على جهة اليمين, وبيت أحمد محمد خير على جهة اليسار, ونسرع فنتخطى بيت إدريس محمد خير من جهة اليمين, ونقف أمام بيت الشيخ أحمد علي عجلاوي. يتكون بيت الشيخ عجلاوي من غرفتين ومطبخ, تفتح إحدى الغرفتين جهة الشرق, بينما تفتح الغرفة الأخرى والمطبخ جهة الجنوب.
أصيب الشيخ عجلاوي في آخر أيامه بداء اليرقان, ولما اشتد عليه الداء نقل لمستشفى مدينة شندي حيث توفي فيه سنة 1977م ودفن بمقابر مدينة شندي. له الرحمة والمغفرة, ونسال الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويسكنه فسيح جناته.
ولا يفوتني أن أقف قليلاً عند أسرة عجلاوي وأذكر أن محمد علي عجلاوي شقيق الشيخ أحمد علي عجلاوي. من أوائل السودانيين الذين عملوا بالسكة الحديد بمدينة عطبرة, بل هو واحد من السودانيين الذين تسلموا العمل من الإنجليز أيام السَّوْدنة, وترقَّى في عمله حتى بلغ ملاحظ ورشة. له ولدان هما: بكري الذي عمل موظفاً في السكة الحديد, حتى استقال منها, وكان يتردد على الشيخ عجلاوي بقرية قوزبرة, ويقيم الآن بمدينة مدني بمنطقة حنتوب. والدكتور محمد محمد علي عجلاوي الذي تخرج في كلية الطب جامعة عين شمس سنة 1966م, وسافر إلى المملكة العربية السعودية وأسس أول مستشفى للجلدية والتناسلية والعقم سنة 1967م بمنطقة باب شريف. ثم رجع للسودان للاستقرار ولكنه لم يمكث طويلاً, فرجع ثانية للمملكة العربية السعودية سنة 1989 واستقر بها لفترة طويلة حتى عاد للسودان سنة 2009م, واستقر بمدينة مدني واتّخذ عيادته بها, عمل بها لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أشهر, وأصيب بنزيف حاد في المخ, نقل للعلاج إلى القاهرة, حيث توفى هناك مع زوجته المصرية الجنسية وأولاده, عليه من الله شآبيب الرحمة والغفران.
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
قرية الحميراب