اليوم الأول في خلوة عجلاوي (9 ــ 23)
عبد الحفيظ خضر بادي
خلوة الشيخ أحمد عجلاوي من الخلاوي المشهورة في قرانا في ذلك الوقت, وكان الحيران يلتحقون بها بأعداد كبيرة. ولم يكن التحاق الحيران يحتاج لاستمارات تعبأ بالمعلومات أو غيره, إنما الشرط الأساسي لقبول الولد كحُوار في الخلوة, أن يأتي الحُوار في رفقة شخص كبير مسؤول عنه, قد يكون هذا الشخص والده أو أمه أو أخوه. ولا يحتاج الحوار لمعاينة علمية تحدد مستواه العلمي, إنما نظرة شيخنا أحمد علي عجلاوي إليه ومعاينته له من على البعد وهو قادم, ثم مصافحته بيده تكفي عن كل المعاينات والمقابلات. فيشير الشيخ عجلاوي إلى الحُوار الجديد بالجلوس مع زملائه الحيران.
بعد ذلك تدور محادثة قصيرة مع ولي أمر الحوار عن القرآن وفضله واهتمام الخلوة بالسلوك القرآني الرشيد, نسمع طرفاً منها ويغيب عنها أغلبها, لكننا نسمع همهمات ولي أمر الحُوار من خلال عبارات مقطعة تدل على القبول والموافقة: سمح يا شيخنا .. حاضر يا سيدنا "السين عليها كسرة ممالة" .. كلامك سمح تب يا شيخنا .. أبداً كلامك ماشي .. يا سيدنا نحن ما بنقصر .. وتنتهي المقابلة بعبارة: "ليك اللحم ولينا العضم". وعبارة "ليك اللحم ولينا العظم" من العبارات الشائعة في خلاوي القرآن الكريم, ليس في السودان فحسب ولكن في كل دول الجوار العربي والأفريقي. ومفهوم هذه العبارة يدل على ثقة ولي الأمر في علم الشيخ وفقهه, كما يعطي الشيخ الحرية المطلقة في توجيه الطالب وتهذيبه وعقابه, لكن هذه الحرية في العقاب مقصورة على ألم اللحم فقط, وألا تتجاوز ذلك بضرب الحوار ضربا مبرحاً يصل إلي عظمه فيؤذيه.. بعد أن تتسلل هذه العبارة لأسماع الحيران الذين يسترقون السمع لحواشي المحادثة تعم الرهبة, فيرفع الحيران أصواتهم بقراءة القرآن.
بعد انصراف ولي أمر الحُوار يبدأ الحيران بمسارقة النظر للحُوار الجديد بأطراف أعينهم, ومن فوق ألواحهم, وبعضهم يُميل اللوح إلي ناحية ويرسل لمحة خاطفة لوجه الحوار, لأن الحديث في الخلوة ممنوع أثناء قراءة اللوح. أما الحوار الجديد فيسند ظهره إلى أقرب جدار إليه ويتابع حركة الحيران وهو في صمت تام, فيبدأ يتجول ببصره في أنحاء الخلوة. يبدأ بالباب الكبير المتجه شرقاً الداكن اللون الأملس من كثرة ما علاه من زيت وغبار اصطبغ بهما فأصبحا جزءاً منه. ويتحول الحوار ببصره إلى الريشان يمين الباب في الركن الشمالي الشرقي, ويقف قليلاً ببصره عند كرتونة المصاحف التي تعلو الريشان. ثم ينتقل إلى أزيار الماء المدفونة إلى ثلثها في الأرض شمال الباب في الركن الجنوبي الشرقي تغطيها طُباقة من السَّعف, عليها علب من اللبن للشرب. ثم يتثبت بصره على شعبة الخلوة في الوسط ويسترسل بصره مع استفامتها وزوائدها الجانبية إلى أن يصل إلى المرق الكبير الذي تحمله على كتفيها منذ أكثر من ثلاثين سنة, وقد يحسب الحوار كل ضلع الخلوة من الناحيتين للمرق, ويتأمل القنا والتبس ثم يهبط بنظره إلى أرضية الخلوة المفروشة بالرمال, ولكنه سرعان ما يشد انتباهه تلك العيدان الثلاثة المثبتة "المشوبحة" في الركن الجنوبي الغربي, جزء منها مثبةٌ في الجدار الغربي والجزء الآخر في الجدار الجنوبي, وتعلوها كرتونة ممتلئة بالمصاحف لا نتجرأ على الاقتراب منها لأن الشيخ قال ذلك. وبعد أن يتحول بصرة ناحية الحائط الجنوبي يجده خارج الخلوة من خلال الطاقة الصغيرة وما بداخلها من عيدان متعارضة لتمنع الحيران من الخروج من خلالها. وبعد أن تهدأ نفس الحوار الجديد, ويطمئن للمكان ويألف من فيه, يدفعه حب المعرفة ليزحف بهدوء ويجلس بجوار أحد الحيران ليطالع لوحه وخطه وتتسلل يده لتلمس اللوح ليتعرف على خامته وأصله, فيزداد اطمئنانه للخلوة ويقترب نفسياً من زملائه الحيران.
يمر اليوم الأول بكامله والحوار يتابع الحيران بنظراته فقط, ولا يتحرك من مكانه إلا لتعديل جلسته أو يتحرك زحفاً من مكان لآخر. في الفترة المسائية تكون الخلوة أكثر حرية وحركة في إيقاعها, إذ تدخل صلاة العصر فيضع الحيران ألواحهم, فتدب الحركة في حوش الخلوة بعضهم يحمل البروش, وبعضهم يفرشها للصلاة, وآخرون ينقلون الماء بالجوز والجرادل من بئر بشير ود دفع الله, تقع بئر بشير ود دفع الله في داخل بيته وهو البيت اللاصق بالخلوة من ناحية الجنوب. يتوضأ الحيران من حوض المحاية بعد غسله جيداً وملئه بالماء, حيث يغرفون الماء بأيديهم للوضوء ويتضأون في مجموعات صغيرة.
وقد تمتد حركة الحيران إلى خارج الخلوة, حيث لم تكن بالخلوة حمامات خاصة بها يقضي فيها الحيران حاجتهم, فيضطر بعضهم للذهاب إلى الساحة التي تقع شرق الخلوة, أما إذا كان الحوار سيتأخر فعليه أن يتجه إلى خارج قوربرة من الناحية الغربية حيث توجد هناك الكثير من الأشجار الكبيرة والصغيرة "الشقل". وهناك طريقة استئذان معينة لكل حالة, فالحُوار الذي سيرجع سريعا يقف أمام الشيخ صامتاً ويرفع يده اليمنى لأعلى وتكون كفة اليد أو إصبعه السبابة في وضع أفقي, هنا يعرف الشيخ أن هذا الطالب سيرجع سريعاً. أما إذا كان الحُوار سيتأخر ويحتاج أن يسير مشواراً طويلا خارج القرية فعليه أن يرفع يده اليمنى لأعلى وتكون كفة يده أو إصبعه السبابة في وضع رأسي. ولكن لا يظنَّن القارئ أن ما يقوم به الحيران من لعب وغش يفوت على الشيخ عجلاوي, فكثيرا ما يُحرجُ الشيخُ عجلاوي الحيران ويعاتبهم بالكلام والتعليق بصوت عالٍ وينهرهم لكنه لا يمنعهم, مثل أن يقول: إنت بتأكل شنو؟ كل مرَّة عاوز تمرق؟ .. ما تتأخر هسه ما مرقت .. الأكل الكثير دا ياهو المتقِّل مُخَّك. وكان الشيخ عجلاوي كثيراً ما ينصحنا بتقليل الأكل ويحثنا على ذلك, لأن الأكل القليل يسهل على العقل عملية الحفظ, أما الأكل الكثير فيدعو للتثاؤب والنوم, لذلك يكون العقل بطيئاً في الاستيعاب والحفظ. وتشتد نبرة الشيخ عجلاوي في الزجر والتأنيب عندما يستفرغ أحد الحيران وتتسخ ثيابه. وبعد أن يصلي الحيران العصر ينشغلون بغسل ألواحهم في حوض المحاية والذي يتوضأون فيه للصلاة, وتجفيفها في الشمس, وتسطيرها ليتهيأوا لكتابة اللوح الجديد.
ولكن هناك بعض الحيران مع حرص الشيخ وشدته يستغلون بعض الثغرات الضيقة في نظام الخلوة, إذ يستأذنون للخلاء البعيد قبيل انصراف الحيران بقليل, ويذهبون إلى بيوتهم مباشرة, ولكن مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يكرروها ثانية لأن الشيخ عجلاوي لن يسمح لهم بالخروج من الخلوة قبيل انصراف الحيران.
من خلال هذه الجزئيات الكثيرة المتفرقة يتعرف الحوار الجديد على مبنى الخلوة وبرنامجها اليومي, لأنه من صبيحة اليوم الثاني سيتسلم لوحه من الشيخ عجلاوي, ويبدأ في دراسة اللغة العربية بصورة جادة. لا يلتزم حيران الخلوة بزي موحد يرتديه كل الحيران, وغالباً ما يأتي الحوار الجديد في يومه الأول في عراقي قصير وسروال تحت الركبة جديدين من قماش الدّمُّورية لأنه رخيص السعر وأكثر تحملاً لصبغة العمارة السوداء والجلوس على الأرض والحركة داخل الخلوة وخارجها.
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
قرية الحميراب
عبد الحفيظ خضر بادي
خلوة الشيخ أحمد عجلاوي من الخلاوي المشهورة في قرانا في ذلك الوقت, وكان الحيران يلتحقون بها بأعداد كبيرة. ولم يكن التحاق الحيران يحتاج لاستمارات تعبأ بالمعلومات أو غيره, إنما الشرط الأساسي لقبول الولد كحُوار في الخلوة, أن يأتي الحُوار في رفقة شخص كبير مسؤول عنه, قد يكون هذا الشخص والده أو أمه أو أخوه. ولا يحتاج الحوار لمعاينة علمية تحدد مستواه العلمي, إنما نظرة شيخنا أحمد علي عجلاوي إليه ومعاينته له من على البعد وهو قادم, ثم مصافحته بيده تكفي عن كل المعاينات والمقابلات. فيشير الشيخ عجلاوي إلى الحُوار الجديد بالجلوس مع زملائه الحيران.
بعد ذلك تدور محادثة قصيرة مع ولي أمر الحوار عن القرآن وفضله واهتمام الخلوة بالسلوك القرآني الرشيد, نسمع طرفاً منها ويغيب عنها أغلبها, لكننا نسمع همهمات ولي أمر الحُوار من خلال عبارات مقطعة تدل على القبول والموافقة: سمح يا شيخنا .. حاضر يا سيدنا "السين عليها كسرة ممالة" .. كلامك سمح تب يا شيخنا .. أبداً كلامك ماشي .. يا سيدنا نحن ما بنقصر .. وتنتهي المقابلة بعبارة: "ليك اللحم ولينا العضم". وعبارة "ليك اللحم ولينا العظم" من العبارات الشائعة في خلاوي القرآن الكريم, ليس في السودان فحسب ولكن في كل دول الجوار العربي والأفريقي. ومفهوم هذه العبارة يدل على ثقة ولي الأمر في علم الشيخ وفقهه, كما يعطي الشيخ الحرية المطلقة في توجيه الطالب وتهذيبه وعقابه, لكن هذه الحرية في العقاب مقصورة على ألم اللحم فقط, وألا تتجاوز ذلك بضرب الحوار ضربا مبرحاً يصل إلي عظمه فيؤذيه.. بعد أن تتسلل هذه العبارة لأسماع الحيران الذين يسترقون السمع لحواشي المحادثة تعم الرهبة, فيرفع الحيران أصواتهم بقراءة القرآن.
بعد انصراف ولي أمر الحُوار يبدأ الحيران بمسارقة النظر للحُوار الجديد بأطراف أعينهم, ومن فوق ألواحهم, وبعضهم يُميل اللوح إلي ناحية ويرسل لمحة خاطفة لوجه الحوار, لأن الحديث في الخلوة ممنوع أثناء قراءة اللوح. أما الحوار الجديد فيسند ظهره إلى أقرب جدار إليه ويتابع حركة الحيران وهو في صمت تام, فيبدأ يتجول ببصره في أنحاء الخلوة. يبدأ بالباب الكبير المتجه شرقاً الداكن اللون الأملس من كثرة ما علاه من زيت وغبار اصطبغ بهما فأصبحا جزءاً منه. ويتحول الحوار ببصره إلى الريشان يمين الباب في الركن الشمالي الشرقي, ويقف قليلاً ببصره عند كرتونة المصاحف التي تعلو الريشان. ثم ينتقل إلى أزيار الماء المدفونة إلى ثلثها في الأرض شمال الباب في الركن الجنوبي الشرقي تغطيها طُباقة من السَّعف, عليها علب من اللبن للشرب. ثم يتثبت بصره على شعبة الخلوة في الوسط ويسترسل بصره مع استفامتها وزوائدها الجانبية إلى أن يصل إلى المرق الكبير الذي تحمله على كتفيها منذ أكثر من ثلاثين سنة, وقد يحسب الحوار كل ضلع الخلوة من الناحيتين للمرق, ويتأمل القنا والتبس ثم يهبط بنظره إلى أرضية الخلوة المفروشة بالرمال, ولكنه سرعان ما يشد انتباهه تلك العيدان الثلاثة المثبتة "المشوبحة" في الركن الجنوبي الغربي, جزء منها مثبةٌ في الجدار الغربي والجزء الآخر في الجدار الجنوبي, وتعلوها كرتونة ممتلئة بالمصاحف لا نتجرأ على الاقتراب منها لأن الشيخ قال ذلك. وبعد أن يتحول بصرة ناحية الحائط الجنوبي يجده خارج الخلوة من خلال الطاقة الصغيرة وما بداخلها من عيدان متعارضة لتمنع الحيران من الخروج من خلالها. وبعد أن تهدأ نفس الحوار الجديد, ويطمئن للمكان ويألف من فيه, يدفعه حب المعرفة ليزحف بهدوء ويجلس بجوار أحد الحيران ليطالع لوحه وخطه وتتسلل يده لتلمس اللوح ليتعرف على خامته وأصله, فيزداد اطمئنانه للخلوة ويقترب نفسياً من زملائه الحيران.
يمر اليوم الأول بكامله والحوار يتابع الحيران بنظراته فقط, ولا يتحرك من مكانه إلا لتعديل جلسته أو يتحرك زحفاً من مكان لآخر. في الفترة المسائية تكون الخلوة أكثر حرية وحركة في إيقاعها, إذ تدخل صلاة العصر فيضع الحيران ألواحهم, فتدب الحركة في حوش الخلوة بعضهم يحمل البروش, وبعضهم يفرشها للصلاة, وآخرون ينقلون الماء بالجوز والجرادل من بئر بشير ود دفع الله, تقع بئر بشير ود دفع الله في داخل بيته وهو البيت اللاصق بالخلوة من ناحية الجنوب. يتوضأ الحيران من حوض المحاية بعد غسله جيداً وملئه بالماء, حيث يغرفون الماء بأيديهم للوضوء ويتضأون في مجموعات صغيرة.
وقد تمتد حركة الحيران إلى خارج الخلوة, حيث لم تكن بالخلوة حمامات خاصة بها يقضي فيها الحيران حاجتهم, فيضطر بعضهم للذهاب إلى الساحة التي تقع شرق الخلوة, أما إذا كان الحوار سيتأخر فعليه أن يتجه إلى خارج قوربرة من الناحية الغربية حيث توجد هناك الكثير من الأشجار الكبيرة والصغيرة "الشقل". وهناك طريقة استئذان معينة لكل حالة, فالحُوار الذي سيرجع سريعا يقف أمام الشيخ صامتاً ويرفع يده اليمنى لأعلى وتكون كفة اليد أو إصبعه السبابة في وضع أفقي, هنا يعرف الشيخ أن هذا الطالب سيرجع سريعاً. أما إذا كان الحُوار سيتأخر ويحتاج أن يسير مشواراً طويلا خارج القرية فعليه أن يرفع يده اليمنى لأعلى وتكون كفة يده أو إصبعه السبابة في وضع رأسي. ولكن لا يظنَّن القارئ أن ما يقوم به الحيران من لعب وغش يفوت على الشيخ عجلاوي, فكثيرا ما يُحرجُ الشيخُ عجلاوي الحيران ويعاتبهم بالكلام والتعليق بصوت عالٍ وينهرهم لكنه لا يمنعهم, مثل أن يقول: إنت بتأكل شنو؟ كل مرَّة عاوز تمرق؟ .. ما تتأخر هسه ما مرقت .. الأكل الكثير دا ياهو المتقِّل مُخَّك. وكان الشيخ عجلاوي كثيراً ما ينصحنا بتقليل الأكل ويحثنا على ذلك, لأن الأكل القليل يسهل على العقل عملية الحفظ, أما الأكل الكثير فيدعو للتثاؤب والنوم, لذلك يكون العقل بطيئاً في الاستيعاب والحفظ. وتشتد نبرة الشيخ عجلاوي في الزجر والتأنيب عندما يستفرغ أحد الحيران وتتسخ ثيابه. وبعد أن يصلي الحيران العصر ينشغلون بغسل ألواحهم في حوض المحاية والذي يتوضأون فيه للصلاة, وتجفيفها في الشمس, وتسطيرها ليتهيأوا لكتابة اللوح الجديد.
ولكن هناك بعض الحيران مع حرص الشيخ وشدته يستغلون بعض الثغرات الضيقة في نظام الخلوة, إذ يستأذنون للخلاء البعيد قبيل انصراف الحيران بقليل, ويذهبون إلى بيوتهم مباشرة, ولكن مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يكرروها ثانية لأن الشيخ عجلاوي لن يسمح لهم بالخروج من الخلوة قبيل انصراف الحيران.
من خلال هذه الجزئيات الكثيرة المتفرقة يتعرف الحوار الجديد على مبنى الخلوة وبرنامجها اليومي, لأنه من صبيحة اليوم الثاني سيتسلم لوحه من الشيخ عجلاوي, ويبدأ في دراسة اللغة العربية بصورة جادة. لا يلتزم حيران الخلوة بزي موحد يرتديه كل الحيران, وغالباً ما يأتي الحوار الجديد في يومه الأول في عراقي قصير وسروال تحت الركبة جديدين من قماش الدّمُّورية لأنه رخيص السعر وأكثر تحملاً لصبغة العمارة السوداء والجلوس على الأرض والحركة داخل الخلوة وخارجها.
عبد الحفيظ خضر محمد بادي
قرية الحميراب